عبق دمشق ...... وسحر رمضان  بقلم إبن دمشق‏

في رمضان تخيم على دمشق – تلك المدينة العتيقة الرابضة على سفوح قاسيون – أجواءً ساحرة تزيد هذه المدينة العتيقة تفرداً وجمالاً.

فأول ما يطرق رمضانُ أبوابَ الدمشقيين في ليلة النصف من شعبان – تلك الليلة التي اعتاد الدمشقيون إحياءها في المساجد- فيحرك لواعج الشوق في قلوبهم , و يهيئ الأرواح و الأفئدة أن تحتضن نفحة من نفحات السماء ...

و يترقب الدمشقيون موعد ( إثبات الهلال ) في مشهد عجيب من يوم التاسع و العشرين من شعبان , فالكل يسأل ( ثبتوها ؟ ) , و الجميع يتزاحم في الأسواق يعد العدة لشهر الصوم .

وتعلن المحكمة الشرعية في قصر العدل – القابع أمام باب النصر المندثر من أبواب قلعة دمشق – ثبوت هلال رمضان بالرؤية الشرعية , و ترتسم على الشفاه أجملُ تعابير التهنئة و التبريك ( رمضانِ مْبارك ) ( الله يحيكم لرمضان القادم ) ( كل عام و أنتم بخير ) .

وتستقبل دمشق ضيفها العزيز الوافد بضربات المدفعية تهز أرجاءها فرحاً وطربا , و تتعالى صيحات التكبير على مآذن دمشق العتيقة الرشيقة إيذانا بحلول عيد المسلمين الأعظم .

وينام الدمشقيون تلك الليلة تداعب خيالاتهم ذكرياتُ رمضان ( أيام زمان ) , ليهبوا من نومهم على طرق طبلة ( المسحر ) ذلك الذي تسري نداءاته بين أزقة الشام العتيقة لتنبه آذان أهلها الغافلين في دعة وآمان .

وتتداعى نساء البيت لوضع ( السفرة ) فكل واحدة لها مهمة , إحداهن توقظ إخوتها , والأخرى تعد ( قمر الدين ) , والثالثة تسكب المربيات والأجبان في صحاف الخزف الصيني , و الرابعة ( تلقم الشاي ) , ويتحلق أهل البيت حول مائدة السحور العامرة بأنواع ( الحواضر ) الدمشقية التي لا يعرف طعمها إلاّ من ذاقها , لا يغنيه وصفها عن ذوقها .

وتلامس الدموعُ صفحاتِ الخدود إذ تصافحُ الآذانَ ترانيمُ السحر و ابتهالاتُ ( الرابطة ) , وتصدح رابطة المنشدين بأرق القصائد تحملها نسمات السحر من أطهر بقعة في قلب دمشق النابض , من حضن دمشق الدافئ , من مفخرة تاريخها الغابر من جامعها الأموي .

ويتناهى إلى سمعك في هدوء السحر ذلك الصوت الأسطوري الذي سرى فيه يوماً عبقُ دمشق وسحرها فكان صوت ( توفيق المنجد ) وهو يلهب العواطف فرحاً بالقادم الغالي , ويصدح بصوته منشداً ( روح فؤادك قد أتى رمضان ) .

ويؤَذَّن للسحر فتنفضُّ العائلة عن سحورها , ليهيئ الرجال أنفسهم لصلاة الفجر في مسجد الحي , و تتداعى النساء لـ ( لم السفرة ) و ارتداء ( غطاء الصلاة ) ليدركن من بركة الصلاة في السحر .

ويسير الأب مع أبنائه في مهابة وإخبات , ويتلاقي أهل الحي في طريقهم إلى بيت الله , فتتعانق الأرواح في فضاء الحارة الدمشقية , و تتصافح القلوب قبل الأيدي في رحاب مسجد الحي الذي يدلِفُ إليه المصلون قبل الوقت المعتاد , و كأنما ألهب الشوقُ إلى لقاء الله قلوبَهم فما يطيقون الانتظار , و تنقضي الصلاة و ما يحتف بها من أوراد و أذكار , و يهرع الناس إلى مصاحفهم يعانقونها عناق الواله المشتاق .

وتطلع شمس اليوم الأول من رمضان تداعبُ أشجار النارنج والليمون , وتلاعب الحبق والياسمين , وتتمايل أشعتها بين ( زواريب ) دمشق وحاراتها الضيقة , وتنشر ضياءها على مشارب البيوت وأسقف الأسواق .

وتتبدى أسواق دمشق عن أبهى حلة وأحلى زينة , وتعرض للغادي والرائح ما لذّ وطاب من أطعمة ومشروبات لا يغني وصفها عن ذوقها .

وتدخل سوق ( البزورية ) فلا تملك بصرك أن يرمي بنظراته إلى بهاء ما فيه , ولا تمسك قلبك أن يهفو إلى لذيذ ما حواه . فلا تملك يدَك عندها أن تمتد لتشتري ما تريده النفس ويسر به الأولاد.

وتعود إلى بيتك عند الأصيل وقد انحنت الشمس إلى الغروب رويداً رويدا , فتتلقاك ( الأهل ) ببسمة حانية وكلمات رقيقة ( الله يعطيك العافية ولا يحرمني من فوتك الحلوة ) , ويتراكض من حولها الأبناء ينظرن ما أتيت لهن من لذيذ ( المعروك ) و ( الناعم ).

وما أجمل لحظات رمضان قبل الغروب والبيت كله في شغل و حركة , فالبنات تعد مائدة الإفطار , و الأب يتلو آيات من القرآن , و الأبناء يطرقون أبواب الجيران بـ ( سكبة ) الأم إلى جاراتها من الطعام , و تتناثر الأطباق على مائدة الإفطار , و يتحلق الشاميون حولها و عيونهم تحتار بين أطايبها .

وتخلو حارات الشام وشوارعها إلا من أطباق الطعام يتهاداها الجيران قبل مدفع الإفطار , ويجلس (كبير العيلة ) وحوله الأبناء والأحفاد يتحلقون حول مائدة الإفطار , و يرهف بعضهم السمع إلى المدفع , و آخرون ينصتون إلى أذان الأموي الجماعي الذي أراده أهل دمشق دليلاً فريداً على حبهم للجماعة والوحدة .

وينساب صوت المؤذن رخيا خاشعا بين أزقة الشام وحواريها , و تهدأ الحركة في الحارة لتبدأ الحركة على المائدة , ويعلو صوت الأب بالدعاء و هو يرتشف ماء ( الفيجة ) عذباً فراتا أساغه الله لأهل الشام دون غيرهم , فتؤمِّن الأم وبناتها على دعواته , و يتساقى الجميع (شراب الورد) و (العرقسوس) و (التمر هندي) , ويضحك الكل في جو ملؤه المرح و السرور.

ويؤم الأب عادةً زوجته وأولاده وبناته في صلاة المغرب جماعة أو يؤديها الأب والأبناء جماعةً في مسجد الحي القريب من البيت ، ثم يعودوا لتكمل العائلة طعام الإفطار الشهي اللذيذ الساخن.

ولا ينسى أهل الشام أن يشربوا الشاي بعد الفراغ من الطعام , يرتشفونه ساخناً عله يقذف فيهم حرارة القوة ليقوموا مسرعين إلى صلاة التراويح , صلاة التراويح التي تمتلئ فيها مساجد دمشق بالشيب والشباب , ويتداعى الدمشقيون إلى الصلاة , كل يسأل صاحبه ( وين الصلاة اليوم ؟) .

ويؤم الناسُ المساجد وقد لبست أبهى حللها , وتهيأت لاستقبال ضيوفها , وتتلاصق الأجساد في صلاة ينساب فيها صوت الإمام ندياً هادئا , يلف المكان بهالة من الخشوع والإخبات , وينعم المصلون بسماع جزء كامل من القرآن الكريم ينفضُ عن قلوبهم غفلة رانت عليه أياماً وربما شهورا.

وينفضُّ المصلون بعد ذلك إلى بيوتهم , فيخرجون من المسجد جماعاتٍ جماعات , جماعات تتعانق فيها البسمات وتتعالى منها الضحكات , ويبلغ كل رجل بيته فيدلف إليه وقد هيأت له زوجه الفاكهة و المكسرات والتف حوله الأهل والأولاد , فيداعبهم و يلاطفهم , و يمازحونه ويضاحكونه ويكون أجمل سهر وأطهر سمر , يقضي فيه الرجل حق أهله بعد أن قضى في الصلاة حق ربه.

وتمر ليالي رمضان , وتتعاقب أيامه , وتبرهن دمشق لربها كل ليلة أنها على العهد باقية ......... ظهر الإسلام ...... و فسطاط المسلمين .